الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} يقول الحق جلّ جلاله: {القارعةُ ما القارعةُ} القرع هو الضرب باعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وهي مبتدأ، خبرها: قوله: (ما القارعةُ) على أنَّ «ما» استفهامية خبر والقارعة مبتدأ، لا بالعكس؛ لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو «ما القارعة» أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. {وما أدراك ما القارعةُ} هو تأكيد لهولها وفضاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، أي: أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ و«أدري» يتعدى إلى مفعولين علقت عن الثاني بالاستفهام. ثم بيّن شأنها فقال: {يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ} أي: هي يوم، على أنَّ «يوم» مبني لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين، والمختار أنه منصوب باذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. والفراش: صِغار الجراد، ويسمى: غوغاء الجراد، وبهذا يوافق قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] وقال أبو عبيدة: الفراش: طير لا بعوض ولا ذباب، والمبثوث: المتفرق. وقال الزجاج: الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. ه. والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في النار، ولا يزال يقتحم على المصباح، قال الكواشي: شبّه الناسَ عند البعث بالفراش لموج بعضهم في بعض، وضعفهم وكثرتهم، وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة ذلك اليوم، كقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ} [القمر: 7] وسمي فراشاً لتفرُّشه وانتشاره وخفته. ه. واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه للكفار؛ لأنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر. {وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشِ} كالصوف الملون بالألوان المختلفة في تفرُّق أجزائها وتطايرها في الجو، حسبما نطق به قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...} [النمل: 88] الآية، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، يُبدِّل الله الأرضَ غير الأرض بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة الأولى، لكن تسيير وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية، كما ينطق به قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105)} [طه: 105] الآية، ثم قال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي} [طه: 108] وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48]، الآية، فإنَّ اتباع الداعي وهو إسرافيل، وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلاَّ بعد النفخة الثانية. قاله أبو السعود. قلت: دكّ الأرض كلها مع بقاء جبالها غريبَ مع أنَّ قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال...} [الحاقة: 14] الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك الأرض قبل البعث، ويمكن الجمع بأن بعضها تدك مع دك الأرض، وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر وبعضها تبقى ليشاهدها أهلُ المحشر، وهو ما كان جانباً، والله تعالى أعلم بما سيفعل وسَتَرِد وترى. ولمّا ذكر ما يَعُمّ الناس ذَكَر ما يخص كل واحد، فقال: {فأمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه} باتباعه الحق، وهو جمع «موزون»، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله أو جمع ميزان، قال ابن عباس رضي الله عنه: هو ميزان له لسان وكفّتان، تُوزن فيه الأعمال، قالوا: تُوضع فيه صحائف الأعمال، فينظر إليه الخلائق، إظهاراً للمعدلة، وقطعاً للمعذرة. قال أنس: «إنَّ ملكاً يوُكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم، يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان، فيُوزن عمله، فإن ثقلت حسناته نادى بصوت يُسْمِع جميعَ الخلائق باسم الرجل: إلاَ سَعِدَ فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفّت موازينه نادى: شَقِيَ فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً» وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السَّوي، والحكم العَدْل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، قالوا: الميزان لا يتوصل به إلى معرفة مقادير الأجسام، فكيف يُمكن أن يعرف مقادير الأعمال. ه. والمشهور أنه محسوس. وقد رُوي عن ابن عباس أنه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتُوضع في الميزان فمَن ترجحت موازين حسناته {فهو في عيشةٍ راضيةٍ} أي: ذات رضاً، أو مرضية، {ومَن خَفَّتْ موازينُه} باتباعه الباطل، فلم يكون له حسنات يُعتد بها، أوترجحت سيئاته على حسناته، {فأُمُّهُ هاويةٌ}، هي من أسماء النار، سُميت بها لغاية عمقها وبُعد مداها، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً. وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وعن قتادة وغيره: فأم رأسه هاوية، لأنه يُطرح فيها منكوساً. والأول هو الموافق لقوله: {وما أدراك مَا هِيَهْ} فإنه تقرير لها بعد إبهامها، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل، وهي ضمير الهاوية، والهاء للسكت، ثبت وصلاً ووقفاً، لثبوتها في المُصحف، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها، ثم فسَّرها فقال: {نارٌ حامية} بلغت النهاية في الحرارة، قيل: وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها، كما في الحديث. الإشارة: القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء، ثم قال: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} أو كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده، يعني: إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف. وتكون الجبال، جبال العقل، كالعهن المنفوش، أي: لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر، عند طلوع الشمس، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ؛ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه، فهو في عيشة راضية، لكونه دخل جنة المعارف، وهي الحياة الطيبة، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر، وحر التدبير والاختيار. ورُوي في بعض الأثر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف. ه. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} يقول الحق جلّ جلاله: {ألهاكم التكاثُر} أي: شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها. رُوي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا، وتعادُّوا بالسادة والأشراف، فقال كُلُّ فريق منهم: نحن أكثر منكم سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، فكثرهم بنو عبد مناف، فقالت بنو سهم: إنَّ البغي في الجاهلية أهلكنا، فعادّونا بالأحياء والأموات، ففعلوا، وقالوا: قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم. والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء {حتى زُرتم المقابر} أي: إذا استوعبتم عددكم صرتم إلى الأموات، فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكُّماً بهم. وقيل: كانوا يزورون القبور، ويقولون هذا قبر فلان، يفتخرون بذلك، وقيل: المعنى: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عما يمهمكم من السعي للآخرة، فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت. قال عبد الله بن الشخِّير: قرأ النبيًّ صلى الله عليه وسلم {ألهاكم التكاثر} فقال: «يقول ابن آدم: ما لي، وليس له من ماله إلا ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تَصَدَّق فأبقى» وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. واللام في (التكاثر) للعهد الذهني، وهو التكاثر بما يشغل عن الله، فلا يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات والأخلاق، فإنَّ ذلك مطلوب؛ لأنَّ بذلك تُنال السعادة في الدارين، وقرينة ذلك قوله تعالى: {ألهاكم} فإنه خاص بما يُلهي عن ذكر الله والاستعداد للآخرة، حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر الله لم تُذمّ وليست بلهو حينئذ، ولذلك جاء: «الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه» قال الإمامُ: ولم يقل: ألهاكم التكاثر عن كذا، بل تركه مطلقاً؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ، فهو أبلغ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كُلَّ مذهب، أي: ألهاكُم عن ذكر الله، وعن التفكًّر في أمور القارعة، وعن الاستعداد لها، وغير ذلك. ه. وقال بان عطية في قوله: {حتى زُرتم المقابرَ}: عن عمر بن عبد العزيز، قال: الآية: تأنيب عن الإكثار من زيارة القبور تكثُّراً بمَن سلف وإشادة عن ذكره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً» فكان نهيه صلى الله عليه وسلم في معنى الآية، ثم أباح بَعْدُ للاتعاظ، لا لمعنى المباهاة والافتخار، كما يصنع الناس في ملازمتها وتعليتها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً وبنيان النواويس عليها. ه. وقال ابن عرفة: زيارة المقابر محدودة، أي: كيوم في شهر، مثلاً، وكان بعضهم يقول: إذا رأيتم الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر، ومن مطالعة رسالة القشيري، فاعلم أنه لا يفلح؛ لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يُجدي شيئاً. ه. أي: لا يفوز بعلم الظاهر؛ لأنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر، فينبغي لمَن كان فيه أهلية للعلم أن يفرده، حتى يحرز منه ما قسم له، ثم يشتغل بعلم الباطن، بصُحبة أهله، وإلاَّ فمطالعة الكتب بلا شيخ لا توصل إليه، وإنما ينال بمحبة القوم فقط، وفيها مقنع لمَن ضعفت همته. ثم زجر عن التكاثر فقال: {كَلاَّ} أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه، أو كما يتوهمه هؤلاء، فهو رَدْع وتنيبه على أنَّ العاقل ينبغي ألاَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا، فإنَّ عاقبة ذلك وخيمة، {سوف تعلمون} سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته، {ثم كّلاَّ سوف تعلمون}، تكرير للتأكيد، و(ثم) دلالة على أنَّ الثاني أبلغ من الأول، والأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور. {كَلاَّ لو تعلمون عِلمَ اليقين} أي: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم من الطاعات ما لا يوصف، ولا يكتنه كنهة، فحذف الجواب للتهويل. قال الفخر: الآية تهديد عظيم للعلماء، فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أنَّ مَن لا يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له، فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً، ثم الويل له. ه. {لَتَرَوُنَّ الجحيمَ}: جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد وشدّد به التهديد، {ثم لَتَرَوُنَّها}: تكرير للتأكيد، أو: الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها، أو الأولى بالقلب، والثانية بالعين، ولذلك قال: {عَينَ اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وحاصلته، فإنَّ علم المشاهدة أقْصَى مراتب اليقين. {ثم لتُسألُن يومئذٍ عن النعيم} أي: عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، فإنَّ الخطاب مخصوص بمَن عكفت همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلاَّ ليأكل الطَيّب، ويلبس الطَيّب، وقطع أوقاته في اللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه على مشاق الطاعة، فأمّا مَن تمتّع بنعمة الله تعالى، وتقوّى بها على طاعته، قائماً بالشكر، فهو من ذلك بمعزلٍ بعيد. وفي الحديث: «يقول الله تبارك وتعالى: ثلاث من النعم لا اسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سواه: بيت يكنُّه وما يُقيم به صلبه من الطعام، وما يُواري به عورَته من اللباس» فالخلائق مسؤولون يوم القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا. والله تعالى أعلم بحالهم، فالكافر يُسأل تبكيتاً وتوبيخاً على شِركه بمَن أنعم عليه، والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه. ه. قلت: فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة، بأن شَهِدَها من المنعِم بها، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها وشكر عند تمامها، فلا يتوجه إليه سؤال أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تُسألون عنه» في حديث أبي الهيثم. والله تعالى أعلم. الإشارة: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، أو بالعلوم الرسمية، عن التوجُّه إلى الله، لتحصيل معرفة العيان، حتى متُّم غافلين، كلاَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم، حين يرتفع أهل العيان مع المقربين، وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين، كلاَّ لو تعلمون علم اليقين؛ لتوجهتم إليه بكل حال لَترون الجحيم، أي: نار القطيعة ثم لَترونها عين اليقين، ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم، هل قمتم بشكره أو لا، وشكره: شهود المنعِم في النعمة، فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين كبيرين، فقلت لهما: ما حقيقة الشكر؟ فقال أحدهما: ألاَّ يُعصى بنعمه، فقلت: هذا شكر العوام، فما شكر الخواص؟ فسكتا، فقلت لهما: شكر الخواص: الاستغراق في شهود المنعِم. ه. وهو كذلك؛ لأنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض الأبرار كالعُبَّاد والزُهَّاد، بخلاف الاستغراق في الشهود، فإنه خاص بأهل العرفان، أهل الرسوخ والتمكين وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} يقول الحق جلّ جلاله: {والعَصْرِ} أقسم تعالى بصلاة العصر لفضلها الباهر، إذ قيل: هِي الصلاة الوسطى، أو: بالعشيِّ الذي هو مابين الزوال والغروب، كما أقسم بالضُحى، أو بعصر النبوة، لظهور فضله على سائر الأعصار، أو بالدهر مطلقاً؛ لانطوائه على تعاجيب الأمور النافعة والضارة، وجوابه: {إِنَّ الإِنسانَ لفي خُسْرٍ}؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم، وصرف أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم. {إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، أو: فإنهم في تجارةٍ لن تبور، حيث باعوا الفاني الخسيس، وآثروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها!. وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم، وقوله تعالى: {وتواصَوْا بالحق} بيان لتكميلهم لغيرهم، أي: وصَّى بعضُهم بعضاً بالأمر الثابت، الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله، من الإيمان بالله عزّ وجل، واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل، {وتواصَوْا بالصبرِ} عن المعاصي التي تُساق إليها النفس الأمّارة، وعلى الطاعة التي يشق عليها أداؤها، وعلى البلية التي تتوجه إليه من جهة قهريته تعالى، وعلى النعمة بالقيام بتمام شكرها، وتخصيص هذا التواصي بالذكر، مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو: لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة، التي هي فعل ما يُرضي الله عزّ وجل، والثاني عن العبودية التي هي الرضا بما فعل اللهُ تعالى، فإنَّ المراد ليس مجرد حبس النفس عمّا تتوق إليه من فعلٍ وترك، بل هو تلقي ما يَرِد منه تعالى بالجميل والرضا ظاهراً وباطناً. قاله أبو السعود. الإشارة: والعصر، أي: عصر الذاكرين، إنَّ الإنسان لفي خُسر، حيث احتجب عن ربه بنفسه وبرؤيته وجوده، إلاّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص، وهو خرق العوائد واكتساب الفوائد، حتى وصلوا إلى كشف الحجاب، فلم يروا مع الله غيره، غابوا عن أنفسهم، وعن وجودهم ووجود غيرهم في شهود محبوبهم فلمّا تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم، كما قال تعالى: {وتواصَوْا بالحق} أي: بفعل الحق، وهو ما يثقل على النفس حتى لا يثقل عليها شيء، أو بالإقبال على الحق، وتواصَوْا على مشاق السير، ثم على عكوف الهم في حضرة الحق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} يقول الحق جلّ جلاله: {ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمزةٍ}، «ويل»: مبتدأ، و«لكل»: خبره، والمُسوِّغ: الدعاء عليهم بالهلاك، أو بشدة الشر، والهَمْز: الكسر، واللمز: الطعن، أي: ويل للذي يحط الناس ويُصغِّرهم، ويشتغل بالطعن فيهم. قال ابن جزي: هو على الجملة: الذي يعيب الناسَ ويأكل أعراضَهم، واشتقاقه من الهمز واللمز، وصيغة فعْلَة للمبالغة، واختلف في الفرق بين الكلمتين، فقيل: الهمز في الحضور، واللمز في الغيبة، وقيل العكس، وقيل: الهمز باليد، واللمز باللسان. وقيل: هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس، وقيل: في آميّة بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك يعم كل مَن اتصف بهذه الصفة. ه. وبناء «فُعَلة» يدل أن ذلك عادة منه مستمرة. وقوله: {الذي جَمَعَ مالاً}: بدل من «كل»، أو: نصب على الذم، وقرأ حمزة والشامي والكسائي «جَمَّعَ» بالتشديد للتكثير، وهو الموافق لقوله: {عدَّده} أي: جعله عُدَّةً لحوادث الدهر، {يَحْسَبُ أنَّ مالَه أخلده} أي: يتركه خالداً في الدنيا لا يموت، وهو تعريض بالعمل الصالح فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم، فأمَّا المال فما أخلد أحداً، إنما يخلد العلم والعمل، ومنه قول علِيّ كرّم الله وجه: (مات خُزّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر) فالحسبان إمّا حسبان الخلود في الدنيا أو في الآخرة، كما قال القائل: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي...} [الكهف: 36] الآية. {كلاَّ} ردع له عن حسبانه. {لَيُنْبَذَنَّ} ليطرحن {في الحُطَمَة} في النار التي من شأنها أن تحطم كلَّ ما يُلقى فيها، {وما أدراك ما الحُطَمَة} تهويل لشأنها، {نارٌ الله الموقدة} أي: هي نار الله التي تتقد بأمر الله وسلطانه، {التي تَطَّلِعُ على الأفئدة} يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم، وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من فؤاده ولا أشد تألُّماً منه بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم، واستولت عليه؟ وقيل: خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة، ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تشتمل عليها وتعمها. {إِنها عليهم} أي: النار، أو الحُطَمَة، {مُّؤْصَدَةٌ} مُطبقة {في عَمَدٍ} جمع عماد. وفيه لغتان «عُمُد» بضمتين، و«عَمَد» بفتحتين، {مُمَدَّدة} أي: تؤصد عليهم الأبواب وتُمدّد على الأبواب العمد، استيثاقاً في استيثاق، والجار صفة لمؤصدة. وفي الحديث: «المؤمن كَيِّسٌ فَطنٌ، وقّاف متثبّت، لا يعجل، عالم، ورع، والمنافق هُمزة، لُمزة، حُطَمَة كحاطب الليل، لا يُبالي من أين اكتسب وفيم أنفق». الإشارة: ويل لمَن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه، قال الورتجبي: ويل الحجاب لمَن لا يرى الأشياء بعين المقادير السابقة، حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد، وهو مقبل على الدنيا بالجمع والمنع. ه. وقوله تعالى: {الذي جَمَعَ مالاً وعدَّدَه} ذّمٌّ لمَن يجمع المال ويُعدده، كائناً مَن كان، والعجب من صُلحاء زماننا، يجمعون القناطير المقنطرة، ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية، وما هذا إلاَّ غلط فاحش فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا؟! وكيف يطهُر وتُشرق فيه الأنوار، وصور الأكوان منطبعة في مرآته؟! وقد قال بعض العارفين: عبادة الأغنياء كالصلاة على المزابل وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة. ه. {يحسب أنَّ ماله أخلدهُ}، أي: يبقيه بالله، كلا. قال الورتجبي: وَصَفَ الحقُّ تعالى الجاهلَ بالله بأنَّ ماله يُصله إلى الحق، لا والله، لا يصل إلى الحق إلاّ بالحق. وقال أبو بكر بن طاهر: يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد. ه. كلاَّ، ليُنبذن في الحُطمة التي تحطم كل ما تُصادمه، وهي حب الدنيا، تحطم كل ما يُلقى في القلب من حلاوة المعاملة أو المعرفة، فلا يبقى معها نور قط، وهي نار الله الموقدة، التي تَطَّلع على الأفئدة، فتُفسد ما فيها من الإيمان والعرفان، إنها عليه مؤصدة، يعني أنَّ الدنيا مُطْبقة عليهم، حتى صارت أكبر همومهم، ومبلغ علمهم. قال الورتجبي: لله نيران، نار القهر ونار اللطف، نار قهره: إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جلاله، ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين والعارفين. ثم قال: عن جعفر: ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله، وكل ذِكْرٍ سوى ذكره. ه. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ كيف فَعَلَ ربُّكَ بأصحابِ الفيل} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل سامع، والهَمزة للتقرير، و«كيف» معلقة لفعل الرؤية، منصوبة بما بعدها. والرؤية: علمية، أي: ألم تعلم علماً ضرورياً مزاحماً للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزّ وجل لا بنفسه، بأن يُقال: ألم ترَ ما فعل ربُّك لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة، دالة على عِظم قدرة الله عزّ وجل، وكمال عِلمه وحكمته، وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلك مِن الإرهاصات له، لِما رُوي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي وُلد فيها صلى الله عليه وسلم. وتفصيلها: إنَّ أُبرهة بن الصَبَّاح الأشرم، مالك اليمن من قِبل النجاشي، بنى بصنعاء كنيسة، سماها القُلَّيس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة، فأحدث فيها ليلاً، وذكر الواقدي: أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة، ورمى فيها الجيف، قال: واسمه «نفيل الحضرمي» فغضب أبرهة، وحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج من الحبشة، ومعه فيل، اسمه «محمود» وكان قويًّا عظيماً، بعثه النجاشي إليه، ومعه اثنا عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية، فلما بلغ «المُغَمسَ» خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبّأ جيشه، وقدّم الفيل، فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه، وقال: أبرك محمود، فإنك في حرم الله، وارجع من حيث جئت راشداً، فبرك فكان كُلما وجَّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجَّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل اللهُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجر في رجليه، أكبر من العدسة، وأصغر من الحمّصَةِ، فكان الحجرُ يقع على رأس الرجل، ويخرج من دُبره، وعلى كل حجر اسم مَن يقع عليه، ففرُّوا وهلكوا في كل طريق ومنهل، ورُمي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره «أبو يسكوم»، وطائر يُحلّق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقصّ عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخرّ ميّتاً بين يديه. ورُوي: أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه في شأنها، فلما رآه أبرهة عَظُمَ في عينه، وكان وسيماً جسيماً فقيل له: هذا سيّد قريش، وصاحب عير مكّة، الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، وقيل: أَجلسه معه، وقال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فلما ذكر له حاجته، وهو: أن يرد إليه إبله، قال: سَقَطت من عيني، جئتُ لأهدم البيت، الذي هو دينك ودين آبائك، وعِصمتكم، وشرفكم في قديم الدهر، لا تكلمني فيه، ألهاك عه ذود أُخذت لك؟ فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا يحيمه، قال أبرهة: ما كان ليحميه مني، فقال: ها أنت وذلك. ثم رجع وأتى باب الكعبة وأخذ بحلقته، ومعه نفر من قريش، فدعوا الله عزّ وجل، فالتفت وهو يدعو، فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما هي نجدية ولا تهامية، فأرسل حلقة الباب، ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة، فأرسل الله تعالى عليهم الطير، فكان ما كان. وقيل: كان أبرهة جد النجاشي، الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَيْن مُقعدين يستطعمان. وقوله تعالى: {ألم يجعل كَيْدَهُمْ في تضليلٍ} بيان إجمالي لما فعل اللهُ بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها، كأنه قيل: جعل كيدهم للكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دَمَّرهم أشد تدمير. يقال: ضلّ كيده، أي: جعله ضالاًّ ضائعاً، وقيل لامرىء القيس: الملِك الضلّيلِ؛ لأنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى. {وأَرْسَل عليهم طيراً أبابيلَ} أي: جماعات تجيء شيئاً بعد شيء. والجمهور: أنه لا واحد له من لفظه كشماطيط وعبابيد، وقيل: واحدها: إبّالة. قالت عائشة رضي الله عنها: أشبهُ شيء بالخطاطيف. قال أبو الجوز: أنشأها الله في الهواء في ذلك الوقت، وقال محمد بن كعب: طيرد سود بَحرية، وقيل: إنها شبيهة بالوطواط حُمْر وسُود. {ترميهم بحجارةٍ} صفة لطير، {من سِجّيلٍ} من طين متحجر مطبوخ مثل الآجر، قال ابن عباس: «أدركت عند أم هاني نحو قفيز من هذه الحجارة». {فجعلهم كعَصْفٍ مأكولٍ} كورَق زرع وقع فيه الأكل، أي: أكلته الدود، أو: كَتِبن أكلته الدواب فراثته، فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف، أو: كتبن علفته الدواب وشتته. فائدة: قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب: إنه مَن قرأ في ركعتي الفجر في الأولى بالفاتحة و«ألم نشرح»، والثانية بالفاتحة و«ألم تر» قََصرت يد كُل عدو عنه، ولو يُجعل لهم إليه سبيلاً قال: وهذا صحيح لا شك فيه. ذكره في الجواهر. الإشارة: قلب العارف هو كعبة الوجود، وهو بيت الرب، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه، فيحميه اللهُ منهم، كما حمى بيتَه من أبرهة، فيقال: ألم ترَ أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية، والخواطر الردية، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار، فأسْحقتهم فجعلتهم كعصفٍ مأكول. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} قلت: (لإيلافِ): متعلق بقوله: «فليعبدوا»، والفاء لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: أنَّ نعم الله تعالى على قريش غير محصورة، فإن لم يَعبدوا لسائر نِعَمه فليعبدوا لإيلافهم الرحلتين، وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ لانها زائدة غير عاطفة، ولو كانت عاطفة لم يجز التقديم وقيل: يتعلق بمُضمر أي: فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، وقيل: بما قبله من قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)} [الفيل: 5]، ويؤيده: أنهما في مصحف «أُبيّ» سورة واحدة بلا فصل، والمعنى: أهلك مَن قصدهم مِن الحبشة ليتسامع الناس بذلك؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب ويحترموهم فضل احترام حتى يتنظم لهم الأمن في رحلتيهم. يقول الحق جلّ جلاله: {لإِيلافِ قريشٍ} أي: فلتعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافهم الرحتلين، وكانت لقريش رحلتان، يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتّجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز فلا يُتَعرّض لهم، والناس بين مختطف ومنهوب. و(الإيلاف): مصدر، من قولهم: ألفت المكان إيلافاً وإلافاً وإلفاً. وقريش: ولد النضر بن كنانة، وقيل: ولد فهر بن مالك، سُمُّوا بتصغير القِرْش، وهو دابة عظيمة في البَحر، تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتفخيم، سُمُّوا بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها. وقيل: مِن القَرْش، وهو الجمع والكسب؛ لأنهم كانوا كسّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد. وقوله تعالى: {إِيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيف} بدل من الأول، أطلق الإيلاف، ثم أبدل منه المقيّد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف، وتذكيراً لعظيم هذه النعمة. و«رحلة»: مفعول بإيلاف وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس. {فليعبدوا رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهم} بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم من جيرانه، {من جوعٍ} شديد كانوا فيه قبلهما. قال الكلبي: أول مَن حمل السمراء من الشام ورحل إليها: هاشم بن عبد مناف. ه. ولمّا بعث اللهُ نبيه، الذي هو نبي الرحمة، وأسلمت قريش، أراح اللهُ الناسَ من تعب الرحلتين، وجلبت إلى مكة الأرزاق من كل جانب، ببركة طلعته صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن دينار: ما سقطت أُمة من عين الله إلاّ ضرب أكبادهم بالجوع. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع» والمذموم هو الجوع المفرط، الذي لم يصحبه في الباطن قوة ولا تأييد، وإلاَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية، أعني الوسط. ثم قال تعالى: {وآمنهم من خوف} أي: من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل، أو: من خوف الناس في أسفارهم أو: من القحط في بلدهم. وقيل: كان أصابتهم شدة حتى أكلوا الجِيَف والعظام المحرقة، فرفعه الله عنهم بدعوته صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}، وقيل: الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام بقوله: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] الآية. الإشارة: كما أمَّن اللهُ أهل بيته أمَّن أهل نسبته، فلا تجد فقيراً متجرداً إلاّ آمناً حيث ذهب، والناس يُختطفون من حوله. قلت: وقد رأينا هذا الأمر عامَ حصر «سلامة» على تطوان، فكان كل مَن خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل، ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ الله، وهذا إذا لبسوا زي أهل النسبة، من المُرقَّعة والسبحة والعصا، فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه، وقد ترك بعضُ الفقراء زيَّه، وسافر فتكشّط فقال له شيخه: أنت فرَّطت، والمفرط أولى بالخسارة. ه. ويُقال لأهل النسبة: فليعبدوا رَبَّ هذا البيت، أي: بيت الحضرة التي طلبتموها، أو: بيت النسبة التي سكنتم فيها، الذي أطعمكم من جوعٍ، حيثما توجتهم، مائدتكم منصوبة، وآمنكم من خوفٍ حيث سِرتم. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} يقول الحق جلّ جلاله: {أرأيت الذي يُكذِّبُ بالدين} استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة مَن سبق له الكلام والتعجب منه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. والرؤية بمعنى المعرفة، والفاء في قوله: {فذلك الذي يَدُعْ اليتيمَ}: جواب شرط محذوف، والمعنى: هل عرفتَ هذا الذي يُكذِّب بالجزاء أو بالإسلام، فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَدُعُّ أي: يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً، ويزجره زجراً قبيحاً، قيل: هو أبو جهل، كان وصيًّا ليتيم، فأتاه عُرياناً يسأله مِن مال نفسه فدفعه دفعاً شديداً وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: العاص بن وائل. وقيل: أبو سفيان، نحر جزوراً فسأله يتيمٌ لحماً فقرعه بعصاه، وقيل: على عمومه. وقُرىء: «يَدَع» أي: يتركه ويجفوه. {ولا يَحُضُّ} أهلَه وغيرهم من الموسرين {على طعام المسكين} فأَولى هو لا يُطعمه، جعل علامة التكذيب بالجزاء: منع المعروف، والإقدام على أذى الضعيف؛ إذ لو آمن بالجزاء، وأيقن بالوعيد، لخشي عقاب الله وغضبه. {فويل للمُصَلِّين الذي هم عن صلاتهم ساهون} غير مبالين بها، {الذين هم يُراؤون} الناس بأعمالهم، ليُمدحوا عليها، {ويمنعونَ الماعونَ} أي: الزكاة. نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يسهون عن فعل الصلاة، أي: لا يُبالون بها، لأنهم لا يعتقدون وجوبها. قال الكواشي عن بعضهم: ليس المراد السهو الواقع في الصلاة الذي لا يكاد يخلو منه مسلم، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يسهو، ويُعضد هذا ما رُوي عن أنس أنه قال: الحمد لله الذي لم يقل «في صلاتهم» لأنهم لمّا قال: «عن صلاتهم» كان المعنى: أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة مبالاة والتفات إليها ولو قال «في صلاتهم» كان المعنى: أنّ السهو يعتريهم وهم في الصلاة، والخلوص من هذا شديد. وقيل «عن» بمعنى «في»، أي: في صلاتهم ساهون. ثم قال عن ابن عطاء: ليس في القرآن وعيد صعب إلاّ وبعده وعيد لطيف، غير قوله: {فويل للمصلِّين..} الآية، ذكل الويل لمَن صلاّها بلا حضور في قلبه، فكيف بمَن تركها رأساً؟ فقيل له: ما الصلاة؟ فقال: الاتصال بالله من حيث لا يعلم إلاّ الله. ثم قال الكواشي: ومما يدل على أنَّ مَن شَرَعَ في الصلاة خالصاً لله، واعترضه السهو مع تعظيمه للصلاة ولشرائع الإسلام، ليس بداخل مع هؤلاء: أنه وصفهم بقوله: {الذين هم يراؤون}. ثم قال: وفي اجتناب الرياء صُعوبة عظيمة، وفي الحديث: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على المسح الأسود» وقال بعضهم: هم الذين لا يُخلصون لله عملاً، ولا يُطالبون أنفسهم بحقيقة الإخلاص ولا يَرِد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم. ه. {ويمنعون الماعُونَ} قيل: الماعون: كل ما يُرتفق به، كالفأس والماء والنار، ونحوها، أي: الماعون المعروف كله، حتى القِدْر والقصعة، أو: ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار، قالوا: ومَنْع هذه الأشياء محظور شرعاً، إذا استعيرت عن ضرورة، وقُبْح في المروءة إذا استعيرت في غير حال الاضطرار. قال عكرمة: ليس الويل لمَن منع هذه الأشياء، إنما الويل لمَن جمعها فراءى في صلاته وسهى عنها ومَنَع هذه الأشياء. ه. قال ابن عزيز: الماعون في الجاهلية: كل عطية ومنفعة، والماعون في الإسلام: الزكاة والطاعة، وقيل: هو ما ينتفع به المسلم من أخيه، كالعارية والإغاثة ونحوهما، وقيل: الماعون: الماء، نقله الفراء، وفي البخاري: الماعون: المعروف كله، أعلاه الزكاة، وأدناه عارية المتاع. والله تعالى أعلم. الإشارة: الدين هو إحراز الإسلام والإيمان والإحسان، فمَن جمع هذه الثلاث تخلّص باطنه، فكان فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء، وتحقق بمقام الإخلاص، وذاق حلاوة المعاملة وأمّا مَن لم يظفر بمقام الإحسان فلا يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء، ربما يصدق عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي يُكذِّب بالدين فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم..} الخ. وقال القشيري في قوله تعالى: {فويل للمُصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون}: يُشير إلى المحجوبين عن أسرار الصلاة ودقائقها، الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها، {الذين هم يُراؤون} في أعمالهم وأحوالهم، بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية، {ويمنعون الماعون} أي: ما يُفيد السالك إلى طريق الحق، من الإرشاد والنُصح، وانظر عبارته نقلتها بالمعنى. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أعطيناك الكوثرَ} أي: الخير الكثير، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين، والرئاسة العامة، وسعادة الدنيا والآخرة «فَوْعل» من الكثرة، وقيل: هو نهر في الجنة، أحلى من العسل، وأشد بياضاً منَ اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه: اللؤلؤ والزبرجد، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً، وأول وارديه: فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد أي: أبواب الملوك لخمولهم، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرَّه. ه. وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير، فقيل له: إنَّ الناس يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: النهر من ذلك الخير، وقيل: هو: كثرة أولاده وأتباعه، أو علماء أمته، أو: القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين. رُوي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فبماذا خصصتني؟» فنزلت: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى (6)} [الضحى: 6]، فلم يكتفِ بذلك، فنزلت: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} فلم يكتفِ بذلك، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي؛ لأنَّ القناعة من الله حرمان، والركون إلى الحال يقطع المزيد، فنزل جبريلُ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول لك: إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فقد اتخذتك حبيباً، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن صلى الله عليه وسلم. والفاء في قوله: {فَصَلِّ لربك وانْحَرْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب أي: فدُم على الصلاة لربك، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة، التي لا تُضاهيها نعمة، خالصاً لوجهه، خلافاً للساهين المرائين فيها، لتقوم بحقوق شكرها، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر. {وانْحَرْ} البُدن، التي هي خيار أموال العرب، وتصدَّق على المحاويج خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون، وعن عطية: هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر بمِنى، وقيل: صلاة العيد والضَحية، وقيل: هي جنس الصلاة، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره. وقيل: هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وعن ابن عباس: استقبل القبلة بنحرك، أي: في الصلاة. وقاله الفراء والكلبي. {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مُبغضك كانئاً مَن كان {هو الأبْتَرُ} الذي لا عَقِب له، حيث لم يبق له نسْل، ولا حُسن ذكر، وأمّا أنت فتبقى ذريتك، وحُسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذِكْرك مرفوع على المنابر، وعلى لسان كل عالم وذاكر، إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويُثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان، فمثلك لا يقال فيه أبتر إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة. قيل: نزلت في العاص بن وائل، كان يُسَمِّي النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه «عبد الله»: أبتر، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: مع مَن كنت واقفاً؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكذلك سمّته قريش أبتر وصُنبوراً، ولمّا قَدِمَ كعب بن الأشرف لعنه الله لمكة، يُحرِّض قريشاً عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له: نحن أهل السِّقايةِ والسِّدَانة، وأنت سَيِّدُ أهل المدينة، فنحن خير أمْ هذا الصنبور المُنْبَتِر من قومه؟ فقال: أنتم خير، فنزلت في كعب: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت..} [النساء: 51]، الآية، ونزلت فيهم: {إن شانئك هو الأبتر}. الإشارة: يُقال لخليفة الرسول، الذي تَخلَّق بخُلقه، وكان على قدمه: إنَّا أعطيناك الكوثر: الخير الكثير، لأنَّ مَن ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله «ماذا فقد مَن وجدك» فَصَلّ لربك صلاة القلوب، وانحر نفسك وهواك، إنَّ شانئك ومُبغضك هو الأبتر وأمَّا أنت فذكرك دائم وحياتك لا تنقطع لإنَّ موت أهل التُقى حياة لا فناء بعدها. وقال الجنيد: إن شانئك هو الأبتر، إي: المنقطع عن بلوغ أمله فيك. ه. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} يقول الحق جلّ جلاله: {قل يا أيها الكافرون} المخاطَبون كفرة مخصوصون، عَلِمَ الله أنهم لا يُؤمنون. رُوي أنَّ رهطاً من صناديد قريش قالوا: يا محمد هلم تتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان دينك خيراً شَرَكْناك فيه، وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا، فقال: «معاذ الله أن نُشرك بالله غيره» فنزلت فغدا إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم، فأيسوا. أي: قل لهم: {لا أعْبُدُ ما تعبدون} فيما يُستقبل؛ لأنَّ «لا» إذا دخلت على المضارع خلصته للاستقبال أي: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي: ولا أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي، {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي: وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، ولم يعهد مني عبادة صنم، فكيف يرجى مني في الإسلام؟ {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته. وقيل: إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حالاً، كما أنَّ الأوليين لنفيها استقبالاً. وإيثار «ما» في (ما أعبد) على «من»؛ لأنَّ المراد هو الوصف، كأنه قيل: ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يُقادر قدر عظمته. وقيل «ما» مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي، وقيل: الأوليان بمعنى «الذي»، والأخريان مصدريتان. وقوله تعالى: {لكم دينكُم وليَ دِينِ} تقرير لِما تقدّم، والمعنى: إنَّ دينكم الفاسد، الذي هو الإشراك، مقصور عليكم، لا يتجاوزه إلى الحصول ليّ، كما تطمعون فيه، فلا تُعلِّقوا به أطماعكم الفارغة، فإنَّ ذلك من المحالات، كما أنَّ ديني الحق لا يتجاوزني إليكم، لِما سبق لكم من الشقاء. والقصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً. والله تعالى أعلم. الإشارة: إذا طلبت العامةٌ المريدَ بالرجوع، إلى الدنيا والاشتغال بها، يُقال له: قل يا أيها الكافرون بطريق التجريد، والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد، لا أعبدُ ما تعبدون من الدينا وحظوظها، أي: لا أرجع إليها فيما يُستقبل من الزمان، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ من إفراد الحق بالمحبة والعبادة، أي: لا تقدرون على ذلك، ولا أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال، لكم دينكم المبني على تعب الأسباب، وليَ ديني المبني على التعلُّق بمسبِّب الأسباب، أو لكم دينكم المكدّر بالوساوس والخواطر والأوهام، ولي ديني الخالص الصافي، المبني على تربية اليقين، أو: لكم دينكم المبني على الاستدلال، ولي ديني المبني على العيان. أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان، كما قال الشاذلي رضي الله عنه. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِذا جاء نَصْرُ اللهِ} «إذا» ظروف لِما يُستقبل والعامل فيه: {فسبِّح}، والنصر: الإعانة والإظهار على العدوّ، والفتح: فتح مكة، أو فتح البلاد والإعلام بذلك قبل الوقوع من أعلام النبوة، إذا قلنا نزلت قبل الفتح، وعليه الأكثر، والمعنى: إذا جاءك نصر الله، وظَهَرْتَ على العرب، وفتح عليك مكة أو سائر بلاد العرب، فَأَكْثِر من التسبيح والاستغفار، تأهُّباً للقاء أو شكراً على النِعم، والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء للإيذان بأنّ حصوله على جناح الوصول عن قريب. وقيل: نزلت أيام التشريق بمِنىً في حجة الوداع، وعاش بعدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً، فكلمة (إذا) حينئذ باعتبار أنَّ بعض ما في حيزها أعني: رؤية دخول الناس أفواجاً غير منقض بعدُ. وكان فتح مكة لعَشْرٍ من شهر رمضان، سنة ثمان، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة. وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهَزَم الأحزابَ وحده»، ثم قال: «يا أهل مكة؛ ما ترون إني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطُلقاء» فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا لهم فيئاً، ولذلك سُمي أهل مكة الطُلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، ثم خرج إلى هوازن. ثم قال تعالى: {ورأيتَ الناسَ} أي: أبصرتهم، أو علمتهم {يدخلون في دينِ الله} أي: ملة الإسلام، التي لا دين يُضاف إليه تعالى غيرها. والجملة على الأول: حال من «الناس»، وعلى الثاني: مفعول ثان لرأيت، و{أفواجاً} حال من فاعل «يدخلون» أي: يدخلون جماعة بعد جماعة، تدخل القبيلة بأسرها، والقوم بأسرهم، بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً، وذلك أنَّ العرب كانت تقول: إذا ظفر محمدٌ بالحرم وقد كان آجرهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان، فلما فُتحت مكة جاؤوا للإسلام أفواجاً بلا قتال، فقد أسلم بعد فتح مكة بَشَرٌ كثير، فكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفاً. وقال أبو محمد بن عبد البر: لم يمت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب كافر، وقد قيل: إنَّ عدد المسلمين عند موته: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. ه. فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح {فَسَبِّح بحمد ربك} أي: قل سبحان الله، حامداً له، أو: فصلّ له {واستغفره} تواضعاً وهضماً للنفس، أو: دُمْ على الاستغفار، {إِنه كان} ولم يزل {تواباً}؛ كثير القبول للتوبة. روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لَمّا فتح مكة، وأسلمت العرب، جعل يُكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وأستغفرك وأتوب إليك، يتأوّل القرآن» يعني في هذه السورة. وقال لها مرة: «ما أراه إلاَّ حضور أجلي»، وتأوَّله العباس وعمر رضي الله عنهما بذلك بمحضره صلى الله عليه وسلم فصدّقهما، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره. الإشارة: إذا جاءتك أيها المريد نصر الله لك، بأن قوّاك على خرق عوائد نفسك، وأظفرك بها (والفتح) وهو دخول مقام الفناء، وإظهار أسرار الحقائق ورأيت الناسَ يدخلون في طريق الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربك، أي: نزّه ربك عن رؤية الغيرية والأثنينية في ملكه، واستغفره من رؤية وجود نفسك. قال القشيري: ويقال النصر من الله بأن أفناه عن نفسه، وأبعد عنه أحكام البشرية، وصفّاه من الكدورات النفسانية، وأمّا الفتح فهو: أن رقَّاه إلى محل الدنو، واستخلصه بخصائص الزلفة، وألبسه لباس الجمع، وعرّفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشاً إليه. ه. وقال الورتجبي (فَسَبِّح بحمد ربك) أي: سبِّحه بحمده لا بك، أي: فسبِّحه بالحمد الذي حمد به نفسه، واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك، فإنّ الكل معلول؛ إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن، إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه، والاعتراف بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده. ه. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} يقول الحق جلّ جلاله: {تَبَّتْ}، أي: هلكت {يَدَا أبي لهبٍ} هو عبد العزى بن عبد المطلب، عم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإيثار لفظ التباب على الهلاك، وإسناده إلى يديه، لِما رُوي أنه لمّا نزل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين (214)} [الشعراء: 214] رقى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وقال: «يا صباحاه» فاجتمع إليه الناسُ من كل أوب، فقال: «يابني عبد المطلب! يابني فهر! أرأيتم إن أخبرتكم أنَّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي؟» قالوا نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يديْ عذابٍ شديدٍ» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ما دعوتنا إلاّ لهذا؟ وأخذ حجراً ليرميه به عليه الصلاة والسلام، فنزلت، أي: خسرت يدا أبي لهب {وتَبَّ} اي: وهلك كله، وقيل: المراد بالأول: هلاك جملته، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]. ومعنى «وتَبَّ»: وكان ذلك وحصل، ويؤيده قراءة ابن مسعود «وقد تب». وذكر كنيته للتعريض بكونه جهنميًّا، لاشتهاره بها، ولكراهة اسمه القبيح. وقرأ المكي بسكون الهاء، تخفيفاً. {ما أَغْنَى عنه مالُه وما كَسَبَ} أي: لم يُغن حين حلّ به التباب، على أنّ «ما» نافية، أو: أيّ شيء أغنى عنه، على أنها استفهامية في معنى الإنكار، منصوبة بما بعدها، أي: ما أغنى عنه أصل ماله وما كسب به من الأرباح والمنافع، أو: ما كسب من الوجاهة والأتباع، أو: ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه، أو: ما كسب من عمله الخبيث، الذي هو كيده في عداوته عليه الصلاة والسلام، أو: عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء، لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً (23)} [الفرقان: 23]، وعن ابن عباس: «ما كسب ولده»، رُوي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فأنا أفدي منه نفسي بمالي وولدي، فاستخلص منه، وقد خاب مرجاه، وما حصل ما تمناه فافترس ولده «عُتبة» أسدٌ في طريق الشام، وكان صلى الله عليه وسلم دعا عليه بقوله: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» وهلك هو نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، فاجتنبه الناسُ مخالفةَ العدوى، وكانوا يخافون منها كالطاعونن فبقي ثلاثاً حتى تغيّر، ثم استأجروا بعض السودان، فحملوه ودفنوه، فكان عاقبته كما قال تعالى: {سَيصْلى ناراً} أي: سيدخل لا محالة بعد هذا العذاب الأجل ناراً {ذاتَ لهبٍ} أي: ناراً عظيمة ذات اشتعال وتوقُّد، وهي نار جهنم. قال أبو السعود: وليس هذا نصًّا في أنه لا يؤمن أبداً، فيكون مأموراً بالجمع بين النقيضين، فإنَّ صَلْي النار غير مختص بالكفار، فيجوز أن يُفهم من هذا أنَّ دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره، فلا اضطرار إلى الجواب المشهور، من أنّ ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً، لا الإيمان بما نطق به القرآن، حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر. ه. {وامرأتُه}: عطف على المستكن في «يَصْلى» لمكان الفعل. وهي أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعد، فتنثرها بالليل في طريق النبي، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير. وقيل كانت تمشي بالنميمة، ويقال لمَن يمشي بالنميمة ويُفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يُوقد بينهم النار، وهذا معنى قوله: {حمّالةَ الحطبِ} بالنصب على الذم والشتم، أو: الحالية، بناء على أنَّ الإضافة غير حقيقية، لوجوب تنكير الحال، وقيل: المراد: أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع. وعن قتادة: أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها، لشدة بُخلها، فعيرت بالبخل، فالنصب حينئذ على الذم حتماً. ومَن رفع فخبر عن «امرأته»، أو: خبر عن مضمر متوقف على ما قبله. وقُرىء «ومُرَيَّتُه» فالتصغير للتحقير، {في جِيدِها} في عُنقها {حَبْلٌ من مَسَد} والمسد: الذي فُتل من الحبال فتلاً شديداً من ليف المُقْل أو من أي ليفٍ كان وقيل: من لحاء شجر باليمن، وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها. قال الأصمعي: صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه «يحيى» فقرأ: «قل هو الله أحد» فتعتع فيها، فقال أحدهم: أكثَرَ يَحْيى غلطا *** في قل هو الله أحد وقال الثاني: قام طويلاً ساكتاً *** حتى إذا أعيا سجد وقال الثالث: يزْحَرُ في محرابه *** زحيرَ حُبْلى بوتد وقال الرابع: كأنما لسانه *** شُدّ بحبلٍ من مسد والمعنى: في جيدها حبل مما مُسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك، وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطّابون، تحقيراً لها، وتصويراً لها، بصورة بعض الحطّابات، لتجزع من ذلك ويجزع بعلُها، وهما من بيت الشرف والعزّ. رُوي أنها لمّا نزلت فيها الآية أتت بيتَه صلى الله عليه وسلم وفي يدها حجر، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه الصدّيق، فأعماها اللهُ عن رسول صلى الله عليه وسلم ولم ترَ إلاّ الصدّيق، قالت: أين محمد؟ بلغني أنه يهجوني، لئن رأيته لأضربن فاه بهذا الفِهر. ه. ومن أين ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء، وقيل: هو تمثيل وإشارة لربطها بخذلانها عن الخير، ولذلك عظم حرصها على التكذيب والكفر. قال مُرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بحزمة من حسك، فتطرحها في طريق المسلمين، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها بحبلها فاختنقت، فهلكت. ه. الإشارة: إنما تبّت يدا أبي لهب، وخسر، وافتضح في القرآن على مرور الأزمان، لأنه أول مَن أظهر الكفر والإنكار، فكان إمام المنكِرين، فكل مَن بادر بالإنكار على أهل الخصوصية انخرط في سلك أبي لهب لا يُغني عنه مالُه وما كسب وسيصلى نارَ القطيعة والبُعد ذات احتراق ولهب، وامرأته، اي: نفسه، حمّالة حطب الأوزار، في جيدها حبل من مسد الخذلان. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} قلت: {هو} ضمير الشأن مبتدأ، والجملة بعده خبر، ولا تحتاج إلى رابط لأنها نفس المبتدأ، فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير، ورفعه من غير عائد يعود عليه؛ للإيذان بأنه الشُهرة والنباهة بحيث يستحضرة كلُّ أحد، وإليه يُشير كل مُشير وعليه يعود كل ضمير، كما يُنبىء عنه اسم الشأن الذي هو القصد. والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها وجلالة حيزها، مع ما فيه من زيادة تحقيقٍ وتقرير، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلاّ شأن مبهم، له خطر جليلٍ، فيبقى الذهن مترقباً لِما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكُّن. وكل جملة بعد خبره مقرِّره لِما قبلها على ما يأتي. يقول الحق جلّ جلاله مجيباً للمشركين لَمّا قالوا: صِفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه، وانسبه؟ فسكت عنهم صلى الله عليه وسلم فنزلت، أو اليهود، لَمّا قالوا: صِفْ لنا ربك وانسبه، فإنه وَصَفَ نفسه في التوراة ونَسَبَها، فارتعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى خَرّ مغشيًّا عليه، فنزل جبريلُ عليه السلام بالسورة. ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم. فقال جلّ جلاله: {قل هو اللهُ} المعبود بالحق، الواجب الوجود، المستحق للكمالات {أحَدٌ} لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لا يتبعّض ولا يتجزّأ ولا يُحد، ولا يُحصَى، أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، ظاهر بالتعريف لكل أحد، باطن في ظهوره عن كل أحد. وأصل {أحد} هنا «وَحَد» فأبدلت الواو همزة، وليست كأحد الملازم للنفي، فإنَّ همزة أصلية. ووصفه تعالى بالوحدانية له ثلاث معان، الأول: أنه لا ثاني له، فهو نفي للعدد، والآخر: أنه واحد لا نظير له ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد عصره، أي: لا نظير له، الثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعّض. والأظهر أن المراد هنا: نفي الشريك، لقصد الرد على المشركين. انظر ابن جزي. {اللهُ الصمدُ} وهو فَعَلٌ بمعنى مفعول، من: صمد إليه: إذا قصده، أي: هو السيّد المصمود إليه في الحوائج، المستغني بذاته عن كل ما سواه، المفتقِر إليه كلُّ ما عداه، افتقاراً ضرورياً في كل لحظة، إذ لا قيام للأشياء إلاّ به. أو الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، أو: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والذي يُطْعِم ولا يُطْعَم ولا يأكل ولا يشرب، أو: الذي لا جوف له، وتعريفه لعلمهم بصمديته، بخلاف أحديته. وتكرير الاسم الجليل، للإشعار بأنَّ مَن لم يتصف بذلك فهو بمعزلٍ عن استحقاق الألوهية، والتلذُّذ بذكره. وتعرية الجملة عن العاطف، لأنها كالنتيجة عن الأولى، بيَّن أولاً ألوهيته عزّ وجل، المستوجبة لجميع نعوت الكمال، ثم أحديته الموجبة لتنزّهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجهٍ من الوجوه، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه، وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها، تحقيقاً للحق وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى. ثم صرّح ببعض أحكام مندرجة تحت الأحكام السابقة، فقال: {لم يلدْ} أي: لم يتولد عن شيء، ردًّا على المشركين، وإبطالاً لاعتقادهم في الملائكة والمسيح، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي، أي: لم يصدر عنه ولد؛ لأنه لا يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة ليتوالدا، كما ينطق به قوله تعالى: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، ولا يفتقر إلى ما يُعينه أو يخلفه؛ لاستحالة الحاجة عليه، لصمدانيته وغناه المطلق. {ولم يُولدْ} أي: لم يتولد عن شيءٍ، لا ستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً. والتصريح به مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه وللإشارة إلى أنهما متلازمان، إذ المعهود أنَّ ما يلد يولد، وما لا فلا، ومِن قضية الاعتراف بأنه لم يلد: الاعتراف بأنه لم يُولد، {ولم يكن له كُفُواً أحَدٌ} أي: ولم يكن أحد مماثلاً له ولا مشاكلاً، مِن صاحبة أو غيرها. و(له): متعلق ب «كُفُواً»، قدمت عليه للاهتمام بها؛ لأنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى، وأمّا تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل. ووجه الوصل في هذه الجُمل غَنِي عن البيان. هذا ولانطواء السورة الكريمة، مع تقارب قطريها، على أنواع المعارف الإلهية والأوصاف القدسية، والرد على مَن ألحد فيها، ورد في الحديث النبوي: أنها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص، وقد استوفت العقائد لمَن أمعن النظر فيها. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أُسست السموات السبع والأرضون السبع على {قل هو الله أحد}» أي: ما خلقت إلاَّ لتكون دلائل توحيده، ومعرفة ذاته، التي نطقت بها هذه السورة الكريمة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يقرؤها، فقال: «» وجبت «فقيل: وما وجبت؟ فقال:» الجنة «، وشكى إليه رَجُلٌ الفقرَ وضيق المعاش، فقال له صلى الله عليه وسلم:» إذا دخلت بيتك فسَلِّم إن كان فيه أحد، وإلا فسَلِّم عليّ واقرأ: {قل هو الله أحد} «ففعل الرجل، فأدرّ اللهُ عليه الرزق، حتى أفاض على جيرانه»، وخرّج الترمذي: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {قل هو الله أحد} مائتي مرة في يوم غُفرت له ذنوب خمسين سنة، إلاّ أن يكون عليه دَيْن»، وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف الإطناب. الإشارة: قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وعلى التوحيد العام، أعني: توحيد أهل البرهان، فالتوحيد الخاص له مقامان: مقام الأسرار الجبروتية، ومقام الأنوار الملكوتية، فكلمة (هو) تُشير إلى مقام الأسرار اللطيفة الأصلية الجبروتية. و (الله) يشير إلى مقام الأنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت؛ لأنّ حقيقة المشاهدة: تكثيف اللطيف، وحقيقة المعاينة: تلطيف الكثيف، فالمعاينة أرقّ، فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من بحر الجبروت مشاهدة، فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط، وانطبق بحر الأحدية على الكل سُميت معاينةً، ووصفه تعالى بالأحدية والصمدية والتنزيه عن الولد والوالد يحتاج إلى استدلال وبرهان، وهو مقام الإيمان، والأول مقام الإحسان فالآية من باب التدلي. قال القشيري: يقال كاشَفَ تعالى الأسرارَ بقوله (هو) والأرواحَ بقوله: (الله) وكاشف القلوبَ بقوله: (أحد) وكاشف نفوسَ المؤمنين بباقي السورة. ويُقال: كاشف الوالهين بقوله: (هو) والموحِّدين بقوله: (الله) والعارفين بقوله: (أحد) والعلماء بالباقي، ثم قال: ويُقال: خاطب خاصة الخاص بقوله: (هو) فاستقلوا، ثم خاطب الخواص بقوله (الله) فاشتغلوا، ثم زاد في البيان لمَن نزل عنهم، فقال: (أحد)، ثم نزل عنهم بالصمد، وكذلك لمَن دونهم. ه. وقال في نوادر الأصول: هو اسم لا ضمير، من الهوية، أي: الحقيقة. انظر بقية كلامه. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: والحاصل: أنَّ الإشارة ب «هو» مختصة بأهل الاستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة، فلانطباق بحر الأحدية عليهم، وانكشاف الوجود الحقيقي لديهم، فقدوا مَن يشار إليه إلاّ هو، لأنّ المُشار إليه لمّا كان واحداً كانت الإشارة مطلقة لا تكون إلاّ إليه، لفقد ما سواه في شعورهم، لفنائهم عن الرسوم البشرية بالكلية، وغيبتهم عن وجودهم، وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية، وذلك غاية في التوحيد والإعظام. منحنا اللهُ ذلك على الدوام، وجعلنا من أهله، ببركة نبيه عليه الصلاة والسلام. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} يقول الحق جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد {أعوذُ بربِّ الفلقِ} أي: أتحصّن وأستجيرُ برب الفلق. والفلق: الصُبح، كالفرق، لأنه يفلق عنه الليل فعل بمعنى مفعول. وقيل: هو كل ما يفلقه الله تعالى، كالأرض عن النبات والجبال عن العيون، والسحاب عن الأمطار، والحب والنوى عما يخرج منهما، والبطون والفروج عما يخرج منهما، وغير ذلك مما يفلق ويخرج منه شيء. وقيل: هو جب في جهنم. وفي تعليق العياذ بالرب، المضاف إلى الفلق، المنبىء عن النور بعد الظلمة وعن السعة بعد الضيق، والفتق بعد الرتَق، عِدَة كريمة بإعاذة العامة مما يتعوّذ منه، وإنجائه منه وفَلْق ما عقد له من السحر وانحلاله عنه، وتقوية رجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب في الاعتناء بقرع باب الالتجاء إلى الله تعالى. ثم ذكر المتعوَّذ منه فقال: {من شرِّ ما خَلَقَ} من الثقلين وغيرهم، كائناً ما كان، وهذا كما ترى شامل لجميع الشرور الجمادية، والحيوانية، والسماوية، كالصواعق وغيرها. وإضافة الشر إليه أي: إلى كل ما خلق لاختصاصه بعالَم الخلق، المؤسس على امتزاج المراد المتباينة، وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد في عالَم الحكمة، وأمّا عالَم الأمر فهو منزّه عن العلل والأسباب، والمراد به: كن فيكون. وقوله تعالى: {ومن شر غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ} تخصيص لبعض الشرور بالذكر، بعد اندراجه فيما قبله، لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه، لكثرة وقوعه، أي: ومن شر الليل إذا أظلم واشتد ظلامه، كقوله تعالى: {إلى غَسَقِ الليل} [الإسراء: 78]. وأصل الغسق: الامتلاء. يقال: غسقت عينيه إذا امتلأت دمعاً وغَسَقُ الليل: انضباب ظلامه. وقوله: {إذا وقب} أي: دخل ظلامه، وإنما تعوَّذ من الليل لأنه صاحب العجائب، وقيل: الغاسق: القمر، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده، لِما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وقال: «تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب» وقيل: وقوب القمر: محاقه في آخر الشهر، والمنجِّمون يعدونه نحساً، ولذلك لا تستعمل السحرةُ السحرَ المُورث للمرض إلاَّ في ذلك الوقت، قيل: وهو المناسب لسبب النزول. وقيل: الغاسق: الثريا ووقوبها: سقوطها، لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين. وقيل: هو كل شر يعتري الإنسان، ووقوبه هجومه، فيدخل فيه الذكَر عند الشهوة المحرمة وغيره. {ومن شر النفاثاتِ في العُقَد} أي: ومن شر النفوس أو: النساء النفاثات، أي: السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط، وينفثن عليها، والنفث: النفخ مع ريق، وقيل: بدون ريق، وتعريفها إمّا للعهد الذهني، وهن بنات لَبِيد، أو: للجنس، لشمول جميع أفراد السواحر وتدخل بنات لَبيد دخولاً أولياً. {ومن شر حاسدٍ إِذا حَسَدَ} إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه، بترتيب مقدمات الشر، ومبادىء الإضرار بالمحسود، قولاً وفعلاً، والتقييد بذلك؛ لأنَّ ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الحسد بكلام نقلناه في سورة النساء، فانظره فيه. الإشارة: الفلق هو النور الذي انفلق عنه بحر الجبروت، وهي القبضة المحمدية، التي هي بذرة الكائنات، فأمر الله بالتعوُّذ بربها الذي أبرزها منه، من شر كل ما يشغل عن الله، من سائر المخلوقات، ومن شر ما يهجم على الإنسان، ويقوم عليه من نفسه وهواه وغضبه وسخطه، ومن شر ما يكيده من السحرة أو الحُساد. والحسد مذموم عند الخاص والعام، فالحسود لا يسود. وحقيقة الحسد: الأسف على الخير عند الغير، وتمني زواله عنه، وأمّا تمني مثله مع بقائه لصاحبه فهي الغِبطة، وهي ممدوحة في الكمالات، كالعلم والعمل، والذوق والحال. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} يقول الحق جلّ جلاله: {قل أعوذُ بربِّ الناس} مربّيهم ومُصلحهم، {مَلِكِ الناس} مالكهم ومدبر أمورهم. وهو عطف بيان جيء به لبيان أنَّ تربيته تعالى ليست بطريق تربية سائر المُلاك لِما تحت أيديهم من ممالكهم، بل بطريق المُلك الكامل، والتصرُّف التام، والسلطان القاهر. وكذا قوله تعالى: {إِلهِ الناس} فإنه لبيان أنَّ مُلكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم، والقيام بتدبير أمور سياستهم، والمتولِّي لترتيب مبادىء حِفظهم وحمايتهم، كما هو قصارى أمر الملوك، بل هو بطريق العبودية، المؤسَّسة على الألوهية، المقتضية للقدرة التامة على التصرُّف الكلي فيهم، إحياءً وإماتةً، وإيجاداً وإعداماً. وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته للإرشاد إلى مناهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى، الحقيقة بالإعاذة، فإنَّ توسل العبد بربه، وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والملكية والمعبودية، في ضمن جنس هو فرد من أفراده، من دواعي الرحمة والرأفة. أمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة، ولأنَّ المستعاذ منه شر الشيطان، المعروف بعداوتهم، مع التنصيص على انتظامه في سلك عبوديته تعالى وملكوته، رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلُّطه عليهم، حسبما ينطق به قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] فمَن جعل مدارَ تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر في توفية المقام حقه. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف. قاله أبو السعود. والآية من باب الترقِّي، وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس، فتقول: فلان رب الدار، وشبه ذلك، فبدأ به لاشتراك معناه وأمَّا المَلك فلا يُوصف به إلاَّ آحاد من الناس، وهم الملوك، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس، فلذلك جيء به بعد الرب، وأمَّا الإله فهوأعلى من المَلك، ولذلك لا يَدَّعي الملوكُ أنهم آلهة، وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير قاله ابن جزي. {من شَرَّ الوسواس} أي: الموسوس، فالوسواس مصدر، كالزلزال، بمعنى اسم الفاعل، أو سمي به الشيطان مبالغةً، كأنه نفس الوسوسة، و{الخناس} الذي عادته أن يخنس، أي: يتأخر عند ذكر الإنسان ربَّه، {الذي يُوَسْوِسُ في صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكر الله، ولم يقل: في قلوب الناس؛ لأنَّ الشيطان محله الصدور، ويمدّ منقاره إلى القلب، وأمّا القلب فهو بيت الرب، وهو محل الإيمان، فلا يتمكن منه كل التمكُّن، وإنما يحوم في الصدر حول القلب، فلو تمكّن منه لأفسد على الناس كلهم إيمانهم. قال ابن جزي: وسوسة الشيطان بأنواع كثيرة، منها: فساد الإيمان والتشكيك في العقائد، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها، فإن سَلِمَ من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك: أنه يُوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال وأقبح الأحوال. وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء، وهي: الإكثار من ذكر الله والإكثار من الاستعاذة منه، ومن أنفع شيءٍ في ذلك: قراءة سورة الناس. ه. قلت: لا يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إلاّ صُحبة العارفين، أهل التربية، حتى يُدخلوه مقامَ الفناء، وإلاَّ فالخواطر لا تنقطع عن العبد. ثم بَيّن الموسوِس بقوله: {مِن الجِنة} أي: الجن {والناس} ووسواس النار أعظم؛ لأنَّ وسواس الجن يذهب بالتعوُّذ، بخلاف وسوسة الناس، والمراد بوسوسة الناس: ما يُدخلون عليك من الشُبه في الدين وخوض في الباطن، أو سوء اعتقاد في الناس، أو غير ذلك. قال ابن جزي: فإن قلت: لِمَ ختم القرآن بالمعوذتين، وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه، الأول: قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لمَّا كان القرأنُ من أعظم نِعم الله على عباده، والنعمة مظنة الحسد، ختم بما يُطفىء الحسد، من الاستعاذة بالله. الثاني: يَظهر لي أنَّ المعوذتين ختم بهما لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: «أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط» كما قال في فاتحة الكتاب: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم يرَ مثلهما للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام. ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد، وغير ذلك من أنواع الكلام، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها. والوجه الثالث: أنه لمّا أمر القارىء أن يفتح قراءته بالتعوُّذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، فيكون القارىء محفوظاً بحفظ الله، الذي استعاذ به مِن أول أمره إلى آخره. ه. الإشارة: لا يُنجي من الوسوسة بالكلية إلاّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي، وتعمير القلب بأنوار التجليات الملكوتية والأسرار الجبروتيه، حتى يمتلىء القلب بالله فحينئذ تنقلب وسوسته في أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات الأقدس، كما قال الشاعر: إن كان للناس وسواس يوسوسهم *** فأنت والله وسواسي وخناسي وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلّم تسليماً. كَمِل «البحر المديد في تفسير القرآن المجيد» بحول الله وقوته. نسأل الله سبحانه أن يكسوه جلباب القبول ويُبلغ به كل مَن طالعه أو حصّله القصدَ والمأمول، بجاه سيد الأولين والآخرين، سيدنا ومولانا محمد، خاتم النبيين وإمام المرسلين. وعُمْدَتنا فيه: تفسير البيضاوي وأبي السعود، وحاشية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي، وشيء من تفسير ابن جزي والثعلبي والقشيري. وكان الفراغ من تبييضه زوال يوم الأحد، سادس ربيع النبوي، عام واحد وعشرين ومائتين وألف، على يد جامعه العبد الضعيف، الفقير إلى مولاه أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي، لطف الله به في الدارين. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|